فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويفهم من البحر أن مذهب سيبويه في أي إذا أضيفت وحذف صدر صلتها كما هنا جواز البناء لا وجوبه، وتحقيق الكلام في مذهبه لا يخلو عن أشكال، وأفعل التفضيل باق على الصحيح على حقيقته كما أشرنا إليه والمفضل عليه محذوف والتقدير كما قال أبو حيان لنبلوهم أيهم أحسن عملًا ممن ليس أحسن عملًا.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ} فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا {مَا عَلَيْهَا} مما جعلناه زينة، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وجوز غير واحد أن يكون هذا أعم مما جعل زينة ولذا لم يؤت بالضمير، والجعل هنا بمعنى التصيير أي مصيرون ذلك {صَعِيدًا} أي ترابًا {جُرُزًا} أي لا نبات فيه قاله قتادة، وقال الراغب: الصعيد وجه الأرض، وقال أبو عبيدة هو المستوى من الأرض وروي ذلك عن السدى.
وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه، وأخرج ابن أبي حاتم أن الجرز الخراب، والظاهر أنه ليس معنى حقيقيًا والمعنى الحقيقى ما ذكرناه، وقد ذكره غير واحد من أئمة اللغة، وفي البحر يقال جرزت الأرض فهي محروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد وأرضون أجراز لإنبات فيها ويقال سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها وجرز الأرض الجراد والشاة والإبل إذا أكلت ما عليها ورجل جروز أكول أو سريع الأكل وكذا الأنثى قال الشاعر:
أن العجوز خبة جروزا ** تأكل كل ليلة قفيزًا

وفي القاموس أرض جرز وجرز وجرز وجرز لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر وفي المثل لا ترضى شانئة إلا بجرزة أي بالاستئصال، والمراد تصيير ما على الأرض ترابًا ساذجًا بعدما كان يتعجب من بهجته النظار وتستلذ بمشاهدته الأبصار، وظاهر الآية تصيير ما عليها بجميع أجزائه كذلك وذلك إنما يكون بقلب سائر عناصر المواليد إلى عنصر التراب ولا استحالة فيه لوقوع انقلاب بعض العناصر إلى بعض اليوم، وقد يقال إن هذا جار على العرف فإن الناس يقولون صار فلان ترابًا إذا اضمحل جسده ولم يبق منه أثر الا التراب.
وحديث انقلاب العناصر مما لا يكاد يخطر لهم ببال وكذا زعم محققي الفلاسفة بقاء صور العناصر في المواليد ويوشك أن يكون تركب المواليد من العناصر أيضًا كذلك وهذا الحديث لا تكاد تسمعه عن السلف الصالح والله تعالى أعلم، ووجه ربط هاتين الآيتين بما قبلهما على ما قاله بعض المحققين أن قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا} [الكهف: 7] إلخ تعليل لما في لعل من معنى الاشفاق وقوله سبحانه: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ} إلخ تكميل للتعليل، وحاصل المعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فانا قد جعلنا على الأرض من فنون الأشياء زينة لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون ذلك عن قريب ومجازون بحسب الأعمال وفي معنى ذلك ما قيل إنه تسكين له عليه الصلاة والسلام كأنه قيل: لا تحزن فانا ننتقم لك منهم وظاهر كلام بعضهم جعل ما يفهم من أول السورة تعليلًا للاشفاق حيث قال المعنى لا يعظم حزنك بسبب كفرهم فانا بعثناك منذرًا ومبشرًا وإما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه قيل ولا يضر جعل ما ذكر تعليلا لذلك أيضًا لأن العلل غير حقيقية، وقيل: في وجه الربط أن ما تقدم تضمن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن وهذا تضمن ارشاده إلى التخلق ببعض اخلاقه تعالى كأنه قيل إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك لا أقطع عنهم نعمي فانت أيضًا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم، والجملة الثانية لمجرد التزهيد في الميل إلى زينة الأرض ولا يخفى عليك بعد هذا الربط بل لا يكاَد ينساق الذهن إليه فتأمل. اهـ.

.قال القاسمي:

{وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} وهم مشركو العرب في قولهم الملائكة بنات الله والنصارى في دعواهم المسيح ابن الله وخصهم بالذكر، وكرر الإنذار متعلقا بهم، استعظامًا لكفرهم. وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة، في الكفر على أقبح الوجوه.
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} أي: ما لهم بالولد، أو باتخاذه، أو بالقول، من علم. بل إنما يصدر عن جهل مفرط، وتوهم كاذب، وتقليد للآباء. لا عن علم يقين، ويقين. ويؤيده قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} أي: ما أكبرها كلمة: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} وذلك لأن الولد مستحيل لا معنى له. إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي أحدي الذات، لا يماثله الوجود الممكن. والولد هو المماثل لوالده في النوع، المكافئ له في القوة. وجملة تخرج من أفواههم صفة لكلمةً تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم. قال الشهاب: لأن المعنى: كبر خروجها. أي: عظمت بشاعته وقباحته، بمجرد التفوه. فما بالك باعتقاده: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} أي: قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا. وذلك لتطابق الدليل القطعي، والوجدان الذوقي على إحالته.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ} أي: مهلكٌ: {نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن: {أَسَفًا} أي: لتأسف على توليهم وإعراضهم عنه. أو متأسف عليهم. والأسف فرط الحزن والغضب. وفي العناية: لعل للترجي. وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه. وهي هنا استعارة. أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك. لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتشبيه حاله معهم، وقد تولوا، وهو آسف من عدم هدايتهم، بحال من فارقته أحبته. فهمّ بقتل نفسه. أو كاد يهلك وجدا عليهم وتحسرا على آثارهم. وسر ذلك- كما قال القاشاني- أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه. ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وكلما كانت محبته للحق أقوى، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر. لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله، وأشد تعطفه عليهم. فإنهم كأولاده وأقاربه. بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي. فلذلك بالغ في التأسف عليهم، حتى كاد يهلك نفسه. وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ} أي: من الحيوان والنبات والمعادن: {زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي: ليظهر أيهم أقهر لشهواتها ودواعيها، وأعصى لهواها أي: رضاي، وأقدر على مخالفتها لموافقتي.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [8].
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} أي: ترابًا مستويًا لا نبات فيه. بعد ما كان يبهج النظار، لا شيء فيه يختلف، ربىً ووهادًا. أي: نفنيها وما عليها ولا نبالي. وفي الآية تسلية له صلوات الله عليه. كأنه قيل لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعًا. لأنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء. ثم نفنيها، ولا حيف ولا نقص. أو لا تحزن فإنا مفنون ذلك ومجازون لهم بحسب أعمالهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)}.
تعليل آخر لإنزال الكتاب على عبده، جعل تاليًا لقوله: {لينذر بأسًا شديدًا من لدنه} [الكهف: 2] باعتبار أن المراد هنا إنذار مخصوص مقابل لما بَشر به المؤمنين.
وهذا إنذار بجزاء خالدين فيه وهو عذاب الآخرة، فإن جَرَيْتَ على تخصيص البأس في قوله: {بأسًا شديدًا} [الكهف: 2] بعذاب الدنيا كما تقدم كان هذا الإنذار مغايرًا لما قبله؛ وإن جريت على شمول البأس للعذابين كانت إعادة فعل ينذر {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا مَّا} تأكيدا، فكان عطفه باعتبار أن لمفعوله صفة زائدة على معنى مفعول فِعل {ينذر} السابق يُعرف بها الفريق المنذرون بكلا الإنذارين، وهو يُومئ إلى المنذرَين المحذوف في قوله: {لينذر بأسًا شديدًا} [الكهف: 2] ويغني عن ذكره.
وهذه العلة أثارتها مناسبه ذكر التبشير قبلها، وقد حذف هنا المنذر به اعتمادًا على مقابِلِه المبشر به.
والمراد بـ: {الذين قالوا اتخذ الله ولدًا} هنا المشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وليس المراد به النصارى الذين قالوا بأن عيسى ابن الله تعالى، لأن القرآن المكي ما تعرض للرد على أهل الكتاب مع تأهلهم للدخول في العموم لاتحاد السبب.
والتعبير عنهم بالموصول وصلته لأنهم قد عُرفوا بهذه المقالة بين أقوامهم وبين المسلمين تشنيعًا عليهم بهذه المقالة، وإيماء إلى أنهم استحقوا ما أنذروا به لأجلها ولغيرها، فمضمون الصلة من موجبات ما أنذروا به لأن العلل تتعدد.
والولد: اسم لمن يولد من ذكر أو أنثى، يستوي فيه الواحد والجمع.
وتقدم في قوله: {قالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه} في سورة يونس (68).
وجملة {ما لهم به من علم} حال من {الذين قالوا}.
والضمير المجرور بالباء عائد إلى القول المفهوم من {قالوا}.
و من لتوكيد النفي.
وفائدة ذكر هذه الحال أنها أشنع في كفرهم وهي أن يقولوا كذبًا ليست لهم فيه شبهة، فأطلق العلم على سبب العلم كما دل عليه قوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه} [المؤمنون: 117].
وضمير {به} عائد على مصدر مأخوذ من فعل {قالوا}، أي ما لهم بذلك القول من علم.
وعطف {ولا لآبائهم} لقطع حجتهم لأنهم كانوا يقولون {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23]، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون فليسوا جديرين بأن يُقلدوهم.
استئناف بالتشاؤم بذلك القول الشنيع.
ووجه فصل الجملة أنها مخالفة للتي قبلها بالإنشائية المخالفة للخبرية.
وفعل {كبرت} بضم الباء.
أصله: الإخبار عن الشيء بضخامة جسمه، ويستعمل مجازًا في الشدة والقوة في وصف من الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة، وهو هنا مستعمل في التعجيب من كِبر هذه الكلمة في الشناعة بقرينة المقام.
ودل على قصد التعجيب منها انتصاب {كلمة} على التمييز إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجيب، ومن أجل هذا مثلوا بهذه الآية لورود فَعُل الأصلي والمحول لمعنى المدح والذم في معنى نِعم وبئس بحسب المقام.
والضمير في قوله: {كبرت} يرجع إلى الكلمة التي دل عليها التمييز.
وأطلقت الكلمة على الكلام وهو إطلاق شائع، ومنه قوله تعالى: {إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100]، وقول النبي: أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا اللّهَ باطل

وجملة {تخرج من أفواههم} صفة لـ: {كلمة} مقصود بها من جُرْأتِهم على النطق بها ووقاحتهم في قولها.
والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار صورة خروجها من أفواههم تخييلًا لفظاعتها.
وفيه إيماء إلى أن مثل ذلك الكلام ليس له مصدر غير الأفواه، لأنه لاستحالته تتلقاه وتنطق به أفواههم وتسمعه أسماعهم ولا تتعقله عقولهم لأن المحال لا يعتقده العقل ولكنه يتلقاه المقلد دون تأمل.
والأفواه: جمع فَم وهو بوزن أفعال، لأن أصل فم فَوَه بفتحتين بوزن جَمل، أو فيهٍ بوزن ريح، فحذفت الهاء من آخره لثقلها مع قلة حروف الكلمة بحيث لا يجد الناطق حرفًا يعتمد عليه لسانه، ولأن ما قبلها حرف ثقيل وهو الواو المتحركة فلما بقيت الكلمة مختومة بواو متحركة أبدلت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار فًا ولا يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين، فأبدلت الألف المنونة بحرف صحيح وهو الميم لأنها تشابه الواو التي هي الأصل في الكلمة لأنهما شفهيتان فصار فم، ولما جمعوه ردوه إلى أصله.
وجملة {إن يقولون إلا كذبًا} مؤكدة لمضمون جملة {تخرج من أفواههم} لأن الشيء الذي تنطق به الألسن ولا تحقق له في الخارج ونفسسِ الأمر هو الكذب، أي تخرج من أفواههم خروج الكذب، فما قولهم ذلك إلا كذب، أي ليست له صفة إلا صفة الكذب.
هذا إذا جعل القول المأخوذ من {يقولون} خصوص قولهم: {اتخذ الله ولدًا} [الكهف: 4].
ولك أن تحمل {يقولون} على العموم في سياق النفي، أي لا يصدر منهم قول إلا الكذب، فيكون قصرًا إضافيًا، أي ما يقولونه في القرآن والإسلام، أو ما يقولونه من معتقداتهم المخالف لما جاء به الإسلام فتكون جملة إن {يقولون} تذييلًا.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}.
تفريع على جملة {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدًا} [الكهف: 4] باعتبارهم مكذبين كافرين بقرينة مقابلة المؤمنين بهم في قوله: {وبشر المؤمنين} [الكهف: 2] ثم قوله: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدًا} [الكهف: 4].
و لعل حقيقتها إنشاء الرجاء والتوقع، وتستعمل في الإنكار والتحذير على طريقة المجاز المرسل لأنهما لا زمان لتوقع الأمر المكروه.
وهي هنا مستعملة في تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من الاغتمام والحزن على عدم إيمان من لم يؤمنوا من قومه.
وذلك في معنى التسلية لقلة الاكتراث بهم.
والباخع: قاتل نفسه، كذا فسره ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جبير.
وفسره البخاري بمهلك.
وتفسيره يرجع إلى أبي عبيدة.